|
الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
عندئذ يفزع قرينه ويرتجف، ويبادر إلى إبعاد ظل التهمة عن نفسه، بما أنه كان مصاحبًا له وقرينًا: {قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد}.. وربما كان القرين هنا غير القرين الأول الذي قدم السجلات. ربما كان هو الشيطان الموكل به ليغويه. وهو يتبرأ من إطغائه؛ ويقرر أنه وجده ضالًا من عند نفسه، فاستمع لغوايته! وفي القرآن مشاهد مشابهة يتبرأ فيها القرين الشيطاني من القرين الإنساني على هذا النحو. على أن الفرض الأول غير مستبعد. فقد يكون القرين هو الملك صاحب السجل. ولكن هول الموقف يجعله يبادر إلى التبرؤ- وهو بريء- ليبين أنه مع صحبته لهذا الشقي- فإنه لم تكن له يد في أي مما كان منه. وتبرؤ البريء أدل على الهول المزلزل والكرب المخيف.هنا يجيء القول الفصل، فينهي كل قول: {قال لا تختصموا لديّ وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد}.. فالمقام ليس له مقام اختصام. وقد سبق الوعيد محددًا جزاء كل عمل. وكل شيء مسجل لا يبدل. ولا يجزى أحد إلا بما هو مسجل. ولا يظلم أحد، فالمجازي هو الحكم العدل.بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته؛ ولكن المشهد كله لا ينتهي. بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف:{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}.إن المشهد كله مشهد حوار. فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب.. هذا هو كل كفار عنيد. مناع للخير معتد مريب.. هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعًا، وتتكدس ركامًا. ثم تنادى جهنم: {هل امتلأت} واكتفيت! ولكنها تتلمظ وتتحرق، وتقول في كظة الأكول النهم: {هل من مزيد}.. فيا للهول الرعيب!وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف، رضيّ جميل. إنه مشهد الجنة، تقرب من المتقين، حتى تتراءى لهم من قريب، مع الترحيب والتكريم:{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة. فالجنة تقرب وتزلف، فلا يكلفون مشقة السير إليها، بل هي التي تجيء: {غير بعيد}! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}.. فيوصفون هذه الصفة من الملأ الأعلى، ويعلمون أنهم في ميزان الله أوابون، حفيظون، يخشون الرحمن ولم يشهدوه، منيبون إلى ربهم طائعون.ثم يؤذن لهم بالدخول بسلام لغير ما خروج: {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود}..ثم يؤذن في الملأ الأعلى، تنويهًا بشأن القوم، وإعلانًا بما لهم عند ربهم من نصيب غير محدود: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.. فمهما اقترحوا فهم لا يبلغون ما أعد لهم. فالمزيد من ربهم غير محدود..ثم يجيء المقطع الأخير في السورة، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع. فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين. وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين. وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد. ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب:{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشًا فنقَّبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}..ومع أن هذه اللمسات كلها قد سبقت في سياق السورة، إلا أنها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع. بهذا التركيز وبهذه السرعة. ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السورة. وهذه هي خصيصة القرآن العجيبة!قال من قبل: {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد}..وقال هنا: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشًا فنقبوا في البلاد هل من محيص}؟الحقيقة التي يشير إليها هي هي. ولكنها في صورتها الجديدة غيرها في صورتها الأولى. ثم يضيف إليها حركة القرون وهي تتقلب في البلاد، وتنقب عن أسباب الحياة، وهي مأخوذة في القبضة التي لا يفلت منها أحد، ولا مفر منها ولا فكاك: ف {هل من محيص}؟..وعقب عليها بما يزيدها جدة وحيوية:{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}..وفي مصارع الغابرين ذكرى. ذكرى لمن كان له قلب. فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذي مات قلبه أو لم يرزق قلبًا على الإطلاق! لا بل إنه ليكفي للذكرى والاعتبار أن يكون هناك سمع يلقى إلى القصة بإنصات ووعي، فتفعل القصة فعلها في النفوس.. وإنه للحق. فالنفس البشرية شديدة الحساسية بمصارع الغابرين، وأقل يقظة فيها وأقل تفتح كافيان لاستجاشة الذكريات والتصورات الموحية في مثل هذه المواقف المؤثرة المثيرة.وعرض من قبل صفحات من كتاب الكون: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}..وقال هنا: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب}.. فأضاف هذه الحقيقة الجديدة إلى جانب اللمسة الأولى. حقيقة: {وما مسنا من لغوب}.. وهي توحي بيسر الخلق والإنشاء في هذا الخلق الهائل. فكيف بإحياء الموتى وهو بالقياس إلى السماوات والأرض أمر هين صغير؟وعقب عليها كذلك بإيحاء جديد وظل جديد:{فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأَدبار السجود}..وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب.. كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض. وهو يربط إليها التسبيح والحمد والسجود ويتحدث في ظلالها عن الصبر على ما يقولون من إنكار للبعث وجحود بقدرة الله على الإحياء والإعادة.فإذا جو جديد يحيط بتلك اللمسة المكررة. جو الصبر والحمد والتسبيح والسجود. موصولا كل ذلك بصفحة الكون وظواهر الوجود، تثور في الحس كلما نظر إلى السماوات والأرض؛ وكلما رأى مطلع الشمس، أو مقدم الليل؛ وكلما سجد لله في شروق أو غروب..ثم.. لمسة جديدة ترتبط كذلك بالصفحة الكونية المعروضة.. اصبر وسبح واسجد. وأنت في حالة انتظار وتوقع للأمر الهائل الجلل، المتوقع في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. لا يغفل عنه إلا الغافلون. الأمر الذي تدور عليه السورة كلها، وهو موضوعها الأصيل:{واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير}..وإنه لمشهد جديد مثير، لذلك اليوم العسير. ولقد عبر عنه أول مرة في صورة أخرى ومشهد آخر في قوله: {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد}. إلخ.فأما هنا فعبر عن النفخة بالصيحة. وصور مشهد الخروج.. ومشهد تشقق الأرض عنهم. هذه الخلائق التي غبرت في تاريخ الحياة كلها إلى نهاية الرحلة. تشقق القبور التي لا تحصى. والتي تعاقب فيها الموتى. كما يقول المعري:
كلها تشقق، وتتكشف عن أجساد ورفات وعظام وذرات تائهة أو حائلة في مسارب الآرض، لا يعرف مقرها إلا الله.. وإنه لمشهد عجيب لا يأتي عليه الخيال!وفي ظلال هذا المشهد الثائر المثير يقرر الحقيقة التي فيها يجادلون وبها يجحدون: {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير}..{ذلك حشر علينا يسير}.. في أنسب وقت للتقرير..وفي ظلال هذا المشهد كذلك يتوجه بالتثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم تجاه جدلهم وتكذيبهم في هذه الحقيقة الواضحة المشهودة بعين الضمير:{نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}..{نحن أعلم بما يقولون}.. وهذا حسبك. فللعلم عواقبه عليهم.. وهو تهديد مخيف ملفوف.{وما أنت عليهم بجبار}.. فترغمهم على الإيمان والتصديق. فالأمر في هذا ليس إليك. إنما هو لنا نحن، ونحن عليهم رقباء وبهم موكلون..{فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}.. والقرآن يهز القلوب ويزلزلها فلا يثبت له قلب يعي ويخاف ما يواجهه به من حقائق ترجف لها القلوب. على ذلك النحو العجيب.وحين تعرض مثل هذه السورة، فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي الأعناق على الإيمان. ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون. وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين! وصدق الله العظيم. اهـ.
|